آخر النهار

112

بقلم حسام جمال الدين

كانت تلك الساعة هى الساعة الأهم فى حياتنا ، ساعة العصارى ، الساعة التى تتنظر فيها نسمة الهواء التى ستطرد حرارة يوم قضيناه فى العمل أو فى الجامعة ، هذه هى الساعة التى سننطلق فيها إلى الطرق المارة بين الحقول والخضرة التى تراها على مدى البصر ، قريتى كانت مطوقة من كل ناحية بالخضرة والغيطان الواسعة ، أشبه بجزيرة وسط بحر من الجمال الأخضر ، أينما تنظر تملأ روحك البهجة ، ننطلق وأصدقائى إلى ذلك الطريق الواسع المؤدى إلى البحر ، عادة يومية نمارسها صيفا وشتاء وأمتع تلك الأوقات فى رمضان حيث ننطلق قبل مدفع الإفطار بنحو ساعتين .

نظل فى سيرنا نتبادل الأحاديث حتى قبل دقائق قليلة من أذان المغرب ، نصل إلى بيوتنا مع الأذان أو بعده مباشرة ، هناك كانت تحتضنك الخضرة وتغسلك وتصفى روحك ، كان يكفينى أن اصعد إلى سطح المنزل الذى يتكون من دورين فقط لأرى الخضرة على مدى البصر كنت من فوق هذا السطح أرى المآذن فى البلدان المجاورة ، تلك الخضرة كانت تمنحك اتساعا فى الرؤية وقوة فى الروح وصفاء فى القلب .

كانت الطرق فى الأغلب ترابية لكننا كنا نستمتع بالسير فوقها ، تلك الطرق هى التى احتوت ذكرياتنا عن أول حب وأول لقاء ، واحاديث الشباب ومغامراتهم ، تلك الطرق احتوت أحلامنا وطموحاتنا بل وخيباتنا ويأسنا ، يصيبنى ضيق أو هم فأنطلق إلى تلك الطرق أمضى بينها تاركا الخضرة تمحو كل الهموم فأعود خفيفا سعيدا كأن شيئا لم يكن .

اليوم تحيط بمنزلى كتل خرسانية تحجب عنى رؤية الحقول التى اختفى معظمها ، ذلك الطريق المؤدى إلى البحر صار ضيقا انتشرت البيوت على جانبيه ، ليس ذلك الطريف فحسب ، كل الطرق التى كنا نمضى فوقها حل محل الخضرة فيها بيوت مهما بلغت من الجمال والفخامة فهى لا تساوى ذرة جمال عندما كان مكانها الغيطان التى احتضنت حياتنا
صار الهواء خانقا ، لم نعد تنتظر نسمة العصارى فقد وارتها الكتل الخرسانية إلى الأبد