“الغيــــاب”

199

بقلم / حسام جمال الدين

 

تقترب من الواحدة بعد منتصف الليل، يستيقظ فجأة، يسرع إلى الغرفة المجاورة، يقترب بهدوء من السرير الواقع بجوار الباب، يلقى نظرة على ملاكه النائم ، ابنته ذات السنوات الأربع، يطمئن إلى أنها تنعم بنوم هادئ، عام قد مضى، وهو على هذه العادة كل ليلة، يظل بجوارها حتى تنام ، يتوجه إلى غرفته، ويعاود الاستيقاظ مرة أو مرات ليطمئن على ملاكه، عام مضى على رحيل أمها، عام مضى وهو يحتضن وساد وحدته كل ليلة، حتى هذه اللحظة لم يتعود على عدم وجودها بجواره، تخترقه الوحدة وتحتويه وتسكن قلبه وروحه تلك التى أصابها الوهن.

ولولا هذا الملاك الصغير لانهارت روحه، هو فقط يقاوم من أجلها ، يبتلع مراراته كل لحظة ، لايريد أن يشعرها بألمه، ظلت وقتا تستغرب وجوده بجوارها ، عيناها تنطقان بأنها تعرف أن امها قد غابت ولن تعود ، انكسرت روحها ولكنها ذات الثلاث سنوات كيف تعبر عن هذا كله، تحتضن والدها يشدة حتى تنام، رفض كل العروض أن تبقى ابنته مع جدتها امه أو امها ولكنه رفض، قرر أن يتحمل معاناته وحده، قرر ألا يترك ابنته لحظة ، تشبه أمها كثيرا ، كلما نظر إلى وجه ملاكه الصغير يشعر أن روحها مازالت هنا ، الوجه نفسه والابتسامة نفسها.

يتحرك وئيدا إلى الصالة يتركها مطفأة حتى لا يوقظها، يجلس على الفوتيه المواجه للتلفزيون، تلك كانت جلستهما معا كل مساء، تضع الصغيرة على فخذها بينما يطوقها بذراعيه، يتذكر عندما كانت تميل برأسها على كتفه، تنظر إليه وتطيل النظر فى عينيه، كانت كل ليلة تودعه بتلك النظرات وهو لا يدرى، سنوات أربع هى ملخص حياته، لم يعش قبلها ولن يعيش بعدها، متيقن هو لا امرأة تستطيع أن تحتل قلبه بعدها، عند النوم.

أخر المشاركات

المسح بالماء والملح

ضيف مقيم

(حامض حلو )

كانت تأبى إلا أن تطوقه بذراعيها ، ترتمى فى حضنه باسمة (( لا أشعر بالأمان إلا فى حضنك )) ن يداعب شعرها : أنت امانى وحياتى، ذاق السعادة فى تلك السنوات كما لم يذقها من قبل، عرف الحب كما لم يعرفه من قبل، لمسه رآه متجسدا فى تلك المرأة، لن تأخذ امرأة مكانها، جالسة هى على عرش روحه ، عام مضى وما زال يبكيها ، كل ليلة ، كل مكان ذهبا إليه، طوال هذا العام يأخذ ملاكه الصغير إلى الأماكن نفسها ، يحرقه الشوق إليها، يطفئ بعض هذا الشوق أن ينظر إلى ابنته يتأملها، يحتضنها، يرى ابتسامتها التى لم تعرف ألم الموت ولا وجع الفراق ، لم يتخيل أن ترحل ، أحيانا يعتقد أن ما يعيشه مجرد حلم سخيف، سيستيقظ ليجدها فى جواره تعانقه كما تعود، تبتسم وهى ترنو إليه تحتضنه عيناها وقلبها ، ينام كل ليلة وفى نفسه أمل يائس أنه سيجدها فى الصباح، كل هذا حلم حلم ….كابوس أحمق سيزول مع صعود النهار ، كان اليوم الأخير عندما خرج معها وابنته للتنزه، يسيران على ذلك الطريق المعشب تحوطه أشجار سامقة تحيل المكان جنة من الخيال أوليس يمضى معها ؟

توقفا تنحنى زوجته فجأة تحمل ملاكها الصغير التى بدأت التعود على السير بين ذراعى والديها، تحتضنها بقوة، ترفض تركها تنزل من أحضانها ، تنظر إليه نظرة طويلة ، لأول مرة يشعر شيئا غريبا ، نظرتها ليست مبتسمة كما تعود ، فيها حزن عميق لم يتخيل أن يراه دوما ، طوال طريق العودة يسأل نفسه ، يراجع نفسه ، هل صدر منه ما يحزنها ؟ هل تصرف تصرفا يبعث إلى نفسها غضبا أو حزنا ؟؟

يصلان إلى المنزل وهى بعد لم تزل مصرة على حمل ابنتها واحتضانها ، ظلت كذلك حتى نامت الطفلة ، تذهب إلى غرفة النوم ، على غير العادة لم تجلس معه كما تعودا، يدخل وراءها، لماذا لم تجلسى معى كعادة كل ليلة ؟! تنظر إليه وترنو إليه، تقبله، يعتنقها، مابك ؟؟؟ متعبة بعض الشيء، ما تقلقش، ترخى ذراعيها من حول عنقه ، يتركها لتنام ، يحاول النوم لكن شيئا ما فى عمق روحه يؤلمه ، وجع يغزو تلك الروح ويستحوذ عليها، قبضة قاهرة تعتصر قلبه اعتصارا.

لم يكن يدرى أن ذاك العناق هو الأخير.