حوار الطرشان
بقلم : على امبابى
ربما كان أحد أمراض العقل العربي في انتاجاته هو التعصب وأحادية الرؤية ، ولم يرث الأصوليون وحدهم هده الخاصية ، ولكن يبدو أن الموروث الثقافي الدي أفرزته مجتمعات البدو القبلية ، والمجتمعات الزراعية التي ينطبق عليها وصف نمط الانتاج الاسيوي ، وهدا الموروث مسؤول عن تكوين العقل العربي بهده السمة الاحادية ، ومن قبل لوحظ ان القيمة العليا في المجتمع العربي هي الطاعة سواء كانت دينية المصدر او اجتماعية المنشأ ، وتعني الطاعة هنا تجميد فعالية العقل في السؤال والتحليل والنقد ، ولعل الدرس الاول الدي يتعلمه أطفالنا في مدارسهم هو تشبيك الأذرع فوق الصدر كعلامة للأدب وحسن الخلق ، وإن كانت في حقيقتها هي إعلان صريح من المؤسسة التعليمية عن حقيقة القيم الضمنية التي توجه عملها : الطاعة والمسايرة والاتصياع للأمر ، ووفقا للمفكرين والمربين والفلاسفة فإن المدرسة بآلياتها وعمليات تفاعلاتها تعزز انتاج ثقافة الخضوع والتبعية ، باعتبارها مؤسسة بعينيها في الأساس صممت لخدمة أبناء هده المؤسسة ، وتطرد خارجها الآخرين الأقل حظا .
وهنا يطرح السؤال نفسه مرة أخرى : هل العقل الجمعي العربي تسلطي وقمعي في حقيقته ؟
هذه الأسئلة هي المقياس النفسي الدي كونه وطبقه فريق من علماء النفس حول -أحادية الرؤية وتعدديتها – للكشف عن مدى انتشار الرؤية الأحادية أو التعددية الديمقراطية بين قطاعات عريضة من المثقفين العرب بدءا من رجال القضاء وأساتدة الجامعات ونزولا الى فئات عادية من المواطنين .
وكان من أخطر ما كشف عنه المقياس من نتائج ، هو أن كلا الجانبين الأصوليون أصحاب الأحادية تجاه مخالفيهم ، وخاصة الأصوليين الإسلاميين ، والتعدديون من بين المثقفين الليبيراليين ، واليساريين ، والعلمانيين ، أي أصحاب الرؤية التعددية ، كلاهما ينفي الآخر ، وكلاهما يدعي أنه من ملاك الحقيقة المطلقة ، وأن الفريق الأخر المقابل على خطأ ، ولايمتلك في موقفه الفكري مشروعية ما ، أو منطقية صحيحة ، فالاصولي السلفي المتهم دوما بالتشدد والتفكير المتعصب ليس وحده الذي ينفي الآخر ، بل إن الفريق التعددي الرؤية الذي يدعو إلى الديمقراطية وحرية الرأي وحرية التعبير ، وحرية الإختلاف ، يرفض هو أيضا الأصوليين أصحاب الرؤية الأحادية ، وكأن مايسود الشارع العربي في الواقع هو ” حوار الطرشان” .
وهده النتيجة التي تكشف عن تهافت وخداع المثقف الديمقراطي ، فهو رجعي في ديمقراطيته ، أي أنه لايقبل أن يحيد عن موقفه ، وأن يتفهم رأي ورؤية الأحاديين ، وبدا فإن كلا الفريقين يمارس لعبة النفي والاقصاء في الواقع .
وماهو جدير بالتأمل هو التحليل الثقافي لمثل هده النتيجة ، فهل نسيجنا الثقافي في حقيقته نسيج أحادي ، قمعي ، تسلطي ، متعصب ، وأن النضال لتدعيم الممارسة الديمقراطية ونشر الثقافة السياسية التعددية في فضائنا العربي وتفكيكه يأتي قبل دلك ؟ ألا يمكن من هنا ان نفهم محاولات المثقفين الأوائل ، في مشاريعهم الفكرية من خلال هذه الزاوية ؟ ثقافتنا كما يبدو ثقافة طرح لا جمع ، وثقافة نفي لا جدل ، وثقافة أحادية لا تعددية .
وليس الحاكم وحده هو المسؤول عن ظاهرة الركود والقمع في مجتمعاتنا العربية بل إن الموروث التراكمي من التاريخ والجغرافيا والثقافة هو مولد مثل هده العقلية ، وليس اليساريون بمنجاة عن اليمينيين ، ولا حظ الليبيراليين بأفضل من حظ السلفيين في هذا ، فكل فريق ينكر على الاخر موقفه واختلافه .
ومن هنا يظل باب المسجد الآخر مسدودا أمام المصلين الذين اختاروا الخروج من باب غير باب الحجاج الثقفي ، وليس خونة الأمة وديكتاتوريوها وحدهم هم أعداء الحرية ، بل نحن جميعا أبناء ثقافة النفي والاقصاء والتسلط والقمع.
وما لم نفكك في سداتها ولحماتها بالفهم والنقد ، وما لم نكشف عن آلياتها في القمع والأحادية والنفي فسوف نظل ديمقراطيين في مظهرنا ، تسلطيين في مخبرنا ، وسوف تظل الديمقراطية اشبه بملابس الإمبراطور القديم: غير موجودة في الواقع .